السبت، 9 أغسطس 2014

من روائع حضارتنا

بسم الله الرحمن الرحيم
من روائع حضارتنا

·   إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
·   وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وآل بيته كما صليت ربنا على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
·       يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون.
·   يا آيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا.
·   يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما.

أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.

إخوة الإسلام.. عباد الله..
الحضارة:
·       يعرف الحضارة بعض الكاتبين فى تاريخها بأنها: "نظام اجتماعى يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافى"
·       وتتألف الحضارة من العناصر الرئيسية:
o     المواراد الاقتصادية.
o     النظم السياسية.
o     التقاليد الخلقية.
o     العلوم والفنون.
ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من: جغرافية، ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هى عكس تلك العوامل التى تؤدى إلى قيامها وتطورها. ومن أهمها: الانحلال الأخلاقى والفكرى، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهينن الأكفاء والزعماء المخلصين.
·       وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهى حلقة متصلة تسلمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولاتختص بأرض ولاعرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التى ذكرناها.
·       ولا تكاد تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات فى تاريخ الحضارة، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التى تقوم عليها، والتأثير الكبير الذى يكون لها، والخير العميم الذى يصيب الإنسانية من قيامها.
·       فكلما كانت الحضارة عالمية فى رسالتها، إنسانية فى نزعتها، خلقية فى اتجاهاتها، واقعية فى مبادئها، كانت أخلد فى التاريخ، وأبقى على الزمن، وأجدر بالتكريم.

خصائص حضارتنا:
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
1.   أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة فى العقيدة، فهى أول حضارة تنادى بالإله الواحد الذى لاشريك له فى حكمه وملكه، هو وحده الذى يعبد وهو وحده الذى يُقصد "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة 5) هذا السمو فى فهم الوحدانية كان له أثر كبير فى رفع مستوى الإنسان وتحرير  الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين.. وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الإلياذة وروائع الأدب اليونانى الوثنى، وتقصيرها فى فنون النحت والتصوير مع تبريزها فنون النقش والحفر والزخرفة والبناء.
هذه الوحدة فى العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التى جاءت بها حضارتنا، فهنالك الوحدة فى الرسالة، والوحدة فى التشريع، والوحدة فى الأهداف العامة، والوحدة فى الكيان الإنسانى العام، والوحدة فى وسائل المعيشة وطراز التفكير.
2.   وثانى خصائص حضارتنا: أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذى أعلن وحدة النوع الإنسانى رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، فى قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)" (الحجرات)
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقداً تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التى خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية.
3.   وثالث خصائص حضارتنا: أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول فى كل نظمها ومختلف ميادين أنشطتها، وهى لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة أو أفراد.. ففى الحكم ، وفى العلم، وفى التشريع، وفى الحرب وفى السلم وفى الاقتصاد، وفى الأسرة.. روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعاً وتطبيقاً.
4. ورابع هذه الخصائص: أنها تؤمن بالعلم فى أصدق أصوله، وتركز على العقيدة فى أصفى مبادئها، فهى خاطبت العقل والقلب معا، وأثارت العاطفة والفكر فى وقت واحد. وهى ميزة لم تشاركها فيها حضارة فى التاريخ.. ومن سر العجب فى هذه الخصيصة أنها استطاعت أن تنشئ نظاماً للدولة قائماً على مبادئ الحق والعدالة، مرتكزاً إلى الدين والعقيد دون أن يكون الدين عائقاً أمام رقى الدولة واطراد حضارتها، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقى فيها.
5. وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا: هذا التسامح الدينى العجيب الذى لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين. إن الذى لايؤمن بدين ولا بإله، لايبدو عجيبا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذى يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولى على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته على أن يجور فى الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، إن هذا لعجيب أن يكون فى التاريخ.

إن الغاية من الحضارة هى أن تقرب الإنسان من ذروة السعادة فى الدنيا، فكيف بحضارة تحقق للإنسان هذا ليس فى الدنيا وحسب وإنما فى الآخرة، هناك حيث النعيم السرمدى.

آثار حضارتنا فى التاريخ

نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة لحضارتنا فى ميادين خمسة رئيسية:
أولها: فى ميدان العقيدة والدين:
فقد كان لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير فى حركات الإصلاح الدينية التى قامت فى أوربا منذ القرن السابع حتى عصر النهضة الحديثة، فالإسلام الذى أعلن وحدانية الله وانفراده بالسلطان وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنقص، كما أعلن استقلال الإنسان فى عبادته وصلته مع الله وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدين، كان عاملاً كبيرا فى تفتح أذهان الشعوب إلى هذه المبادئ القوية الرائعة.
ثانيها: فى ميدان الفلسفة والعلوم:
من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك.. ، فلقد أفاقت أوربا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يدرسون هذه العلوم فى مساجد أشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيين الأول إلى مدارسنا شديدى الإعجاب والشغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم فى جو من الحرية لايعرفون له مثيلا.
فى الوقت الذى كان فيه علماؤنا يتحدثون فى حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوربيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها.
ومن ثم ابتدأت عن الغربيين حركات الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وغدت كتب علمائنا تدرس فى الجامعات الغربية، ككتاب القانون فى الطب لابن سينا، والحاوى للرازى، وكتب ابن رشد والإدريسى وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبى ذكرى فى الصيدلة.. وغيرهم كثير.
ثالثها: فى ميدان اللغة والأدب:
فقد تأثر الأوربيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربى تأثراً كبيرا، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربى فى الأندلس على الخصوص.
وقد تأثرت القصة الأوربية فى نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص فى القرون الوسطى، وهى المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان.
رابعا: فى ميدان التشريع:
فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية فى الأندلس وغيرها أثر كبير فى نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوربا فى ذلك الحين على نظام متقن ولا قوانين عادلة، حتى إذا كان عهد نابليون فى مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكى إلى اللغة الفرنسية، ومن أوائل هذه الكتب "كتاب خليل" الذى كان نواة القانون المدنى الفرنسى، فقد عهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون أن يتترجم إلى الفرنسية كتاب المختصر فى الفقه للخليل بن إسحق بن يعقوب المتوفى سنة 1422م.
خامسها: فى مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة:
فقد كان العالم القديم والوسيط ينكر على الشعب حقه فى الإشراف على أعمال حكامه، كما يجعلون الصلة بينه وبين الحاكم صلة بين العبد وسيده.
أما العلاقة بين الأمم المتحاربة، فهى استباحة الغالب لكل ما فى يد المغلوب وما فى وطنه من مال وعرض وحرية وكرامة، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحضارة الإسلامية تعلن فيما تعلن من مبادئها أن الشعب هو صاحب الحق فى الإشراف على حكامه، وأن هؤلاء ليسوا إلا أجراء يسهرون على مصالح الشعب وكرامته بأمانة ونزاهة.
وفى هذا يقع لأول مرة فى التاريخ أن يحاسب فرد من أفراد الشعب حاكمه عما يلبس، من أين جاء به، فلا يحكم عليه بالإعدام، ولايقاد إلى السحن، ولاينفى من الأرض، ولكن يقدم له الحاكم حسابه حتى يقتنع ويقتنع الناس!.
ولأول مرة فى التاريخ يقول أحد أفراد الرعية لحاكمه الأكبر: السلام عليك أيها الأجير! فيعترف الحاكم بأنه أجير الشعب.
أعلنت الحضارة الإسلامية هذا فما هى إلا نسمة الحرية والوعى تهب فى الشعوب المجاورة للمجتمع الإسلامى فتتململ ثم تتحرك ثم تثور ثم تتحرر.. وكانت الثورة الفرنسية بعد ذلك فلم تعلن من المبادئ أكثر مما أعلنته حضارتنا قبل اثنى عشر قرنا من الزمان.

خــاتمة:
وبعد، فهذه هى بعض الآثار الخالدة لحضارتنا فى خمسة ميادين رئيسية هى أبرز مظاهر الحياة فى الأمم والحضارات..
ومن أجل ذلك كان لنا نحن أبناء هذه الحضارة دين على الشعوب التى حررتها حضارتنا، يجب أن نسترده لا بالتفاخر الكاذب ولا بالأمانى والأباطيل، بل بمعرفتنا لقدر أنفسنا، وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا، واستحقاقنا لأن نكون الأمة الوسط التى تشهد على الناس، وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة ولعلنا فاعلون بإذن الله.

والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على رسول الكريموآله وصحبه أجمعين،،

من كتاب: من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعى    رحمه الله تعالى
(الراجى عفو ربه سبحانه: محمود الشاعر   غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين)