الخميس، 25 أكتوبر 2012

صلة الرحم


بسم الله الرحمن الرحيم
صلة الرحم

·       إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
·       وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وآل بيته كما صليت ربنا على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
·       يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون.
·       يا آيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا.
·       يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما.

أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.

إخوة الإسلام.. عباد الله..
الدين المعاملة:
·       لقد جاء الدين الحق دين الإسلام بالعقائد الصحيحة، فصوب ما عسى أن يكون اعتراه التحريف والتغيير تجاه ما أخبر الله عز وجل بحقيقته من معرفة ذاته سبحانه وتوحيده، وما كان من أمر بدء خلق الإنسان والملائكة والجان ومصير الإنسان ومآله، وما يلقاه من ثواب وعقاب وجزاء فى الدنيا والآخرة..
·       كذلك فقد جاء بالعبادات والقربات التى يريدها المولى سبحانه من عباده المؤمنين.. من صلاة وزكاة وصيام وحج.
·       كما جاء بالمعاملات الحسنة والأخلاق الرفيعة جاء بصلة الرحم وحسن الجوار، والإحسان إلى الضعفاء، وتدعيم الصلات، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ورد الحقوق إلى أصحابها..

الترغيب فى صلة الرحم:
وقد جاء الترغيب فى القرآن الكريم والحث والأمر بصلة الأرحام.. يقول الله تعالى: "أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)" (الرعد)، يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } ففهم ذلك وعمل به. { كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا وخير مآلا فيؤثر طريقها ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره.
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لُبّ العالم، وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله:
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة، فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها، والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي: العهد الذي عاهدوا عليه الله، فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور، التي يعقدها العباد. فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم، إلا بأدائها كاملة، وعدم نقضها وبخسها.
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } يصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام، بالإحسان إليهم قولا وفعلا ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي: يخافونه،فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } على المأمورات بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة.
{ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة، سرا وعلانية، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي: من أساء إليهم بقول أو فعل، لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء؟!
{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } فسرها بقوله: { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: إقامة لا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا؛ لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } من الذكور والإناث { وَأَزْوَاجِهِمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والأشباه، والأصحاب والأحباب، فإنهم من أزواجهم وذرياتهم، { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم ويقولون: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم، وذلك متضمن لزوال كل مكروه، ومستلزم لحصول كل محبوب.
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } أي: صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية، { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.

وقال عز وجل: "..وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)" (النساء) أي واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال مجاهد والحسن : { الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ } أي كما يقال أسألك بالله وبالرحم ، وقال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة. وقرأ بعضهم : { والأرحام } بالخفض عطفاً على الضمير في ( به ) أي تساءلون بالله وبالأرحام كما قال مجاهد وغيره .
وقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم.



ولكن كيف تكون الصلة:
تكون الصلة بالبر (والبرُّ هو جماع كل خير)، والإحسان وإيصال النفع إليهم وإعانتهم والذود عنهم، والتخفيف عليهم، ومواساتهم ومؤازرتهم، وإدخال السرور والبهجة عليهم.

قال الله تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)" (النساء)
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : « » أتدري ما حق الله على العباد؟ « قال الله ورسوله أعلم ، قال : » أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً « ، ثم قال : » أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم « ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، وكقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، ثم عطف على الإحسان إليهما بالإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث : » الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة « .
ثم قال تعالى : { واليتامى } وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ، ثم قال : { والمساكين } وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم ، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم ، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة ، وقوله : { والجار ذِي القربى والجار الجنب } قال ابن عباس : { والجار ذِي القربى } يعني الذي بينك وبينه قرابة { والجار الجنب } الذي ليس بينك وبينه قرابة ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد ، وقال نوف البكالي في قوله : { والجار ذِي القربى } يعني الجار المسلم { والجار الجنب } يعني اليهودي والنصراني رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال مجاهد أيضاً في قوله { والجار الجنب } يعني : الرفيق في السفر ، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان .
 ( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه « أخرجه في الصحيحين .
 ( الحديث الثاني ) : عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره « .
 ( الحديث الثالث ) : قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » « ما تقولون في الزنا »؟ قالوا : حرام حرمه الله ورسوله وهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره » ، قال : « ما تقولون في السرقة »؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة ، قال : « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره » .

وقال تعالى: "فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
يقول تعالى آمراً بإعطاء { ذَا القربى حَقَّهُ } أي من البر والصلة ، { والمسكين } وهو الذي لا يشء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته ، { وابن السبيل } وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره ، { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى ، { وأولئك هُمُ المفلحون } أي في الدنيا والآخرة.

وقال تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)" (النور)
يقول تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ } من الألية وهي الحلف أي لا يحلف { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } أي الطول والصدقة والإحسان . { والسعة } أي الجدة { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين ، وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ، ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم ، وهذه الآيات نزلت في ( الصدّيق ) رضي الله عنه ، حين حلف أن لا ينفع ( مسطح بن أثاثة ) بنافعة أبداً ، بعدما قال في عائشة ما قال كما تقدم في الحديث ، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك ، وأقيم الحد على من أقيم عليه ، شرع تبارك وتعالى - وله الفضل والمنة - يعطف الصديق على قريبه ونسيبه ، وهو مسطح بن أثاثة ، فإنه كان ابن خالة الصديق ، وكان مسكيناً لا مال له إلاّ ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف ، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب ، فلما نزلت هذه الآية ، قال الصديق : بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا ربنا ، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال : والله لا أنزعها منه أبداً، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.

ويقول تعالى: "وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)" (الأنفال)
كانت الموالاة الإيمانية - في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللّه { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة،وقوله: { فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: في حكمه وشرعه.

ويقول تعالى: "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)" (النساء)
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي: قسمة المواريث { أُولُو الْقُرْبَى } أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: { الْقِسْمَةَ } لأن الوارثين من المقسوم عليهم. { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي: المستحقون من الفقراء. {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.
ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.

وقد جاء التحذير والوعيد من قطع الرحم:
قال تعالى: "وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)" (الرعد)
هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر مآلهم في الآخرة ، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء { يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } كما ثبت في الحديث : « آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » ، ولهذا قال : { أولئك لَهُمُ اللعنة } وهي الإبعاد عن الرحمة { وَلَهُمْ سواء الدار } ، وهي سوء العاقبة والمآل {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ الرعد : 18 ] . وقال أبو العالية : هي ست خصال في المنافقين ، وإذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث والخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا .

وقد جاءت السنة الشريفة ببيان ذلك:
قال الله تعالى أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته (الضياء: إسناده صحيح)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ (البخارى)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}

وعنه صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة قاطع.  (صححه الألبانى)

وعن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) (البخارى)

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ « لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ».

هدانا الله سواء السبيل،
المصادر والمراجع:
·       القرآن الكريم                                  كتاب رب العالمين
·       كتب السنة والسيرة العطرة                   المكتبة الشاملة
·       تفسير السعدى
·       مختصر تفسير ابن كثير
(الراجى عفو ربه سبحانه وتعالى: محمود الشاعر  غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين)